يشكّل "ممر داوود" قضية جيوسياسية محورية في الخطاب السياسي والأمني التركي المعاصر، لما ينطوي عليه من تداعيات استراتيجية تطال الأمن القومي التركي، وتعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي. يمتد هذا الممر البري من شمال العراق مرورًا بشمال سوريا وصولًا إلى البحر المتوسط، ويُستخدم كأداة لتحقيق أهداف أمريكية وإسرائيلية عبر دعم كيان كردي مسلّح يُنظر إليه على أنه امتداد لحزب العمال الكردستاني. وتعتبر أنقرة هذا المشروع بمثابة محاولة لتطويقها استراتيجيًا وقطع تواصلها مع عمقها العربي، وهو ما يفسّر تشدد موقفها تجاه أي تحركات ذات صلة.
يستند هذا المقال إلى مجموعة من التحليلات التركية التي استعرضت أبعاد المشروع السياسية والأمنية والاقتصادية، مسلطًا الضوء على الرؤية التركية التي ترى في "ممر داوود" تهديدًا متعدد الأبعاد يتجاوز كونه مجرد ممر جغرافي، إلى كونه أداة استراتيجية لإعادة تشكيل معادلات القوة في الشرق الأوسط بما يتجاوز الحدود السيادية التقليدية.
ترى تركيا أن "ممر داوود" هو أخطر تحدٍّ استراتيجي تواجهه منذ الحرب العالمية الأولى، وتعتبر أن التعامل معه لا يمكن أن يقتصر على التصريحات السياسية، بل يتطلب تحركًا عمليًا يشمل المجالين العسكري والدبلوماسي، إضافة إلى تعزيز التنسيق الإقليمي. وتؤكد أنقرة أن هذا المشروع لا يستهدفها فقط، بل يسعى إلى تفكيك الإقليم بأسره عبر إعادة إنتاج خرائطه العرقية والمذهبية.
أولاً: الأبعاد السياسية للمشروع
تعتبر تركيا أن "ممر داوود" مشروع عزل استراتيجي يهدف إلى احتوائها وتحويلها إلى دولة هامشية في محيطها. كما يُنظر إلى المشروع على أنه أداة لتعزيز الكيانات الانفصالية في سوريا والعراق، لا سيما الكيانات الكردية والدرزية التي تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى شرعنتها تحت شعارات "الحكم الذاتي" و"التمثيل العرقي".
وتذهب بعض التحليلات إلى اعتبار الممر امتدادًا لمشروع "إسرائيل الكبرى"، المرتبط بمفاهيم دينية وسياسية كـ"أرض الميعاد"، و"الشرق الأوسط الجديد"، ما يعكس طموحًا استعماريًا طويل الأمد. وتسعى القوى الداعمة للمشروع إلى إعادة توصيف الجماعات المسلحة الكردية والدروزية كحركات سياسية مدنية، تمهيدًا لشرعنة وجودها في المحافل الدولية. وفي هذا السياق، تبرز محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، كنقطة ارتكاز رئيسية في هذا المخطط.
ثانيًا: الأبعاد الاقتصادية
يحمل الممر أبعادًا اقتصادية لا تقل خطورة عن السياسية. فهو يسعى إلى التحكم بمسارات النفط والغاز من شمال العراق باتجاه المتوسط، متجاوزًا الأراضي التركية، ما يعني حرمان أنقرة من دورها كممر طاقوي إقليمي. كما يهدف إلى السيطرة على الموارد الزراعية والمائية في مناطق استراتيجية مثل الفرات ودير الزور، التي تنتج نحو 80% من القمح السوري، ما يعمّق أزمات الأمن الغذائي. وفي الوقت ذاته، تهدف الخطة إلى تحويل ميناء حيفا إلى مركز لوجستي إقليمي بديلاً عن الموانئ التركية، وهو ما يمثّل تهديدًا مباشرًا لمشروع "الوطن الأزرق" الذي تسعى تركيا إلى تطويره في شرق المتوسط.
ثالثًا: الأبعاد الأمنية والعسكرية
من الناحية الأمنية، يُعدّ المشروع تهديدًا مباشرًا للحدود الجنوبية لتركيا، حيث يضع الجيش التركي أمام "حدود جديدة" مع كيانات وظيفية مدعومة من إسرائيل والغرب. كما يسعى المشروع إلى تحويل الجماعات الانفصالية إلى أدوات أمنية، من خلال تزويدها بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية. ولا يتوقف الخطر عند هذا الحد، بل يشمل أيضًا زعزعة التوازن السكاني والديمغرافي في مناطق مثل الحسكة والرقة والسويداء، عبر عمليات تطهير عرقي وتهجير قسري.
الأخطر من ذلك، هو نقل الصراع إلى الداخل التركي، من خلال تغذية النزعات الانفصالية العرقية داخل تركيا نفسها، في محاولة لتفجير الجبهة الداخلية من خلال أدوات سياسية وإعلامية ودبلوماسية.
رابعًا: الأهداف العامة للممر
تتمثل الأهداف الكبرى لهذا المشروع في السيطرة على موارد النفط والغاز في المنطقة، وإضعاف دول الجوار، لا سيما سوريا والعراق وتركيا، إلى جانب محاصرة إيران وتفكيك ما يُعرف بـ"الهلال الشيعي". ويُراد من خلال المشروع فرض واقع جيوسياسي جديد بغطاء أمريكي – دولي، يعيد ترتيب المنطقة بناءً على أسس طائفية وعرقية.
خامسًا: المخاطر المتوقعة على تركيا
من أبرز المخاطر التي تواجهها تركيا نتيجة هذا المشروع، فقدان السيطرة على حدودها الجنوبية، وتراجع نفوذها التقليدي في شمال سوريا وشمال العراق. كما يهدد المشروع بإعادة إنتاج الانقسام العرقي داخل تركيا، عبر الدفع باتجاه الفيدرالية والتقسيم العرقي. وقد يؤدي ذلك إلى تراجع الدور التركي في البحر المتوسط نتيجة فقدان العمق البري، فضلًا عن تعطيل مشاريع استراتيجية مثل "ممر زانجيزور" ومبادرة "الوطن الأزرق".
سادسًا: مؤشرات على تسارع تنفيذ المشروع
تشير المعطيات الميدانية والسياسية إلى أن المشروع يشهد تسارعًا لافتًا في التنفيذ. فقد بدأ يتم الترويج لشرعنة قوات "قسد" ودمجها في المفاوضات الدولية كطرف سياسي شرعي، وهو ما يفتح الباب أمام اعتراف أممي بها. بالتوازي، يسابق الكيان الإسرائيلي الزمن لفرض وقائع جديدة على الأرض، مستفيدًا من تراجع الانشغال الروسي والأوروبي بالملف السوري، ومن الدعم الأمريكي المتزايد.
وتُبذل جهود لتعويم فكرة الحكم الذاتي للكرد والدروز في إطار "فيدرالية ما بعد الحرب"، مع احتمال تقديم المشروع كجزء من "سلام إقليمي شامل" يترافق مع وعود بالإعمار وتدفق الاستثمارات، ما يجعل مقاومته أكثر تعقيدًا.
سابعًا: الخطوات التركية المطلوبة للمواجهة
للتصدي لهذا المشروع، تدعو التحليلات التركية إلى بلورة استراتيجية وطنية شاملة لا تقتصر على المعالجة الأمنية، بل تشمل أيضًا الجوانب السياسية والدبلوماسية والاستخباراتية والاقتصادية. ويبرز في هذا الإطار ضرورة تنفيذ عمليات عسكرية استباقية في شمال العراق وسوريا، لمنع استكمال الممر وقطع خطوط الإمداد والدعم.
كذلك، تشدد أنقرة على أهمية تعميق التنسيق مع الحكومة المركزية في بغداد، وأيضًا مع حكومة إقليم كردستان، بهدف فك الارتباط بين أربيل و"قسد". كما يجب الحفاظ على توازن العلاقات مع إيران، وتعزيز التعاون مع دول المتوسط مثل مصر وليبيا والجزائر، بما يخدم المصالح التركية الجماعية.
وفي الداخل، من الضروري توحيد الجبهة الوطنية لمواجهة التحديات، والتصدي لمحاولات تغليف النزعات الانفصالية بإطار سياسي شرعي. كما تُوصى تركيا بتعزيز وجودها العسكري واللوجستي في المناطق الحدودية، خصوصًا على خط تل أبيض – رأس العين، وتفعيل تبادل استخباراتي متعدد الأبعاد مع قوى إقليمية ودولية لاحتواء النفوذ الإسرائيلي غير المباشر.
في المحصلة، ترى تركيا أن "ممر داوود" ليس مشروعًا محليًا عابرًا، بل هو جزء من إعادة رسم خريطة المنطقة بأدوات ناعمة وصلبة، الأمر الذي يتطلب يقظة استراتيجية وتحركًا مركبًا يعيد صياغة الدور التركي في الإقليم.
الكاتب: حسين شكرون