الأربعاء 23 تموز , 2025 03:55

التطبيع مع الشعوب: الطموح الإسرائيلي الجديد للهيمنة في المنطقة

التطبيع مع الحكومات لم يعد هدف "إسرائيل"

منذ توقيع اتفاقيات أبراهام، سعت "إسرائيل" إلى تثبيت موقعها داخل النظام الإقليمي من خلال سلسلة من اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية. غير أن التطورات الأخيرة، لا سيما بعد حربها الوحشية على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، كشفت عن حدود هذا التطبيع حين يقتصر على الجانب الرسمي أو الأمني أي حكومات الدول، دون امتداده إلى الشعوب.

لماذا تسعى إسرائيل لاختراق الشعوب؟

بالنسبة لإسرائيل، التطبيع مع الحكومات ليس كافياً لبناء "سلام دافئ" أو لإعادة تشكيل صورتها في الذهن العربي. فوجودها الإقليمي لا يمكن أن يكون مستقراً إذا ظل مشوباً بالعداء الشعبي، ولا يمكنها أن تؤسس -نظاماً إقليمياً- تقوده كما تسعى وهي لا تزال تُعتبر كياناً غريباً وعدواً في نظر الشعوب. من هنا، يحاول الكيان الانتقال من "تطبيع الضرورة" إلى "تطبيع القبول".

إخفاق التطبيع في كسب الشعوب

برغم أن اتفاقيات أبراهام وفّرت مظلة رسمية للتعاون العسكري والاقتصادي مع دول كالإمارات والبحرين والمغرب، إلا أن التطورات على الأرض أثبتت أن الشعوب لا تتماهى بالضرورة مع سياسات حكوماتها. أحد أبرز المؤشرات على هذا الانفصال هو التراجع الملحوظ في الأنشطة، كالسياحة والتبادل الثقافي، التي كانت قد بدأت تزدهر بعد الاتفاقيات. فعلى سبيل المثال، انخفض عدد السياح الإسرائيليين في الإمارات بشكل حاد بعد الحرب الأخيرة على غزة -لشعورهم بشيء من عدم القبول-، رغم استمرار العلاقات السياسية والأمنية وحتى الدعم العسكري بين الجانبين.

أهداف التطبيع مع الشعوب

شرعنة وجود الاحتلال: قبول "إسرائيل" من قبل الشعوب يعطي الكيان شرعية وجود لم يستطع انتزاعها عبر القوة. فبينما قد تمنح الحكومات اعترافاً سياسياً، فإن الشعوب هي التي تمنح القبول الحقيقي والدائم.

 تقويض مركزية فلسطين: التطبيع الشعبي يعني عملياً إعادة تعريف "العدو" في وعي المواطن العربي، وتهميش القضية الفلسطينية لصالح أولويات اقتصادية أو ثقافية مشتركة مع الكيان.

تحصين الكيان: التعاون الأمني مع الاحتلال قد يصمد أمام الأزمات، كما حصل بعد حرب غزة الأخيرة، لكنه يبقى هشاً ما لم يُدعّم بقواعد شعبية. فالتطبيع مع الشعوب يوفّر للاحتلال هامش أمان أوسع في أوقات التصعيد.

التطبيع مع الشعوب... هدف إستراتيجي

في السنوات الأخيرة، لم تعد "إسرائيل" ترى في توقيع الاتفاقيات مع الأنظمة العربية غاية كافية، بل بات واضحاً أنها تسعى اليوم إلى كسب "تطبيع شعبي" يضمن لها "القبول والاستقرار طويل الأمد". ويتضح هذا التحول في توصيات كبار المفكرين والمحللين الإسرائيليين أنفسهم، الذين دعوا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مراراً إلى إنهاء الحرب في غزة إذا كان جاداً في رغبته بتوسيع دائرة التطبيع، وخاصة مع دول مثل السعودية.

فالعديد من الباحثين أكدوا أنه لا يمكن المضي في أي اتفاق تطبيع علني، في ظل مشاهد المجازر والدمار التي تبث يومياً من غزة. حتى الإدارة الأميركية، وعلى رأسها ترامب، نصحت نتنياهو أكثر من مرة بأن استمرار الحرب يُقوّض فرض التطبيع.

هذا التحوّل يؤكد أن الشرعية الشعبية أصبحت مطلباً إسرائيلياً، بعدما أثبتت التجارب أن التطبيع الرسمي دون قبول شعبي هشّ وقابل للانهيار عند أول مواجهة. ولذلك، تسعى "إسرائيل" اليوم إلى تغيير صورتها في الوعي العربي، وتقديم نفسها "كدولة طبيعية"، وهو ما يفسّر محاولاتها اختراق الإعلام العربي، والفن، والتعليم، وحتى شبكات المؤثرين العرب.

الوجه الجديد لاتفاقات أبراهام

لم يعد هدف "إسرائيل" يقتصر على توقيع اتفاقيات سياسية مع أنظمة عربية كما حصل مع الإمارات والبحرين والمغرب، بل بدأت تسعى اليوم إلى توسيع قاعدة التطبيع أفقياً. وكما يشير مقال نُشر في "ذا ناشيونال انترست"، فإن إحدى ركائز إحياء اتفاقات أبراهام تتمثل في تعزيز "التواصل بين الشعوب"، عبر برامج تعليمية وثقافية ومنصات إعلامية مشتركة، مما يعني أن الكيان يسعى لبناء قبول اجتماعي وثقافي تدريجي يوازي التطبيع السياسي. هذا التوجه يعكس إدراك "إسرائيل" أن هشاشة اتفاقياتها الحالية تنبع من غياب الحاضنة الشعبية لها في العالم العربي، خصوصاً في ظل تنامي مشاعر التضامن مع الشعب الفلسطيني. وبالتالي، فإن تل أبيب تدرك أن ضمان استقرار هذه الاتفاقيات يتطلب تحويل "التطبيع من رأس الهرم" إلى "التطبيع من أسفل الهرم"، عبر اختراق المجتمع المدني، والتأثير على الأجيال الشابة، وصياغة خطاب إعلامي يُفرغ العداء من مضمونه.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور