الأربعاء 23 تموز , 2025 03:51

الذكاء الاصطناعي في إسرائيل: بين طموحات التفوق وحدود المشروع الاستعماري

الذكاء الاصطناعي في إسرائيل

يشكّل الذكاء الاصطناعي في وقتنا الحالي محوراً أساسياً في سباق القوى العالمية نحو الهيمنة التكنولوجية. إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية، بل تحوّل إلى ساحة استراتيجية تُعاد فيها صياغة مفاهيم السيادة والسلطة في مختلف القطاعات، من الاقتصاد إلى الأمن القومي، ومن التعليم إلى الرعاية الصحية.

في هذا السياق العالمي المتسارع، يجد الكيان الإسرائيلي نفسه أمام تحدٍ مزدوج: فمن جهة، يسعى للحفاظ على مكانته كمركز تكنولوجي عالمي متقدّم، ومن جهة أخرى، يحاول تطويع الذكاء الاصطناعي لخدمة مشروعه الاستعماري والاستيطاني القائم على السيطرة والتفوق العنصري.

ورغم التقدّم الملحوظ الذي تحققه "إسرائيل" على المستوى البحثي والتقني، خصوصاً في المجالات الأمنية، إلا أن غياب استراتيجية وطنية شاملة في مجال الذكاء الاصطناعي يسلّط الضوء على خلل بنيوي في بنيتها التنظيمية. فهي تتبنى نهج "الضبط المرن"، الذي يفضّل تحفيز الابتكار على فرض الرقابة، ما يخلق بيئة مواتية لنمو الشركات التكنولوجية، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام فراغ تشريعي ومخاطر اجتماعية يصعب احتواؤها.

لا يمكن فصل هذا الغياب التنظيمي عن السياق الأيديولوجي للدولة. فإسرائيل ليست دولة ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه، بل كيان استيطاني بُني على منطق الإقصاء والسيطرة والاحتلال. وعليه، فإن تبني الذكاء الاصطناعي لا يهدف إلى تعزيز العدالة الاجتماعية أو تحسين رفاهية حياة السكان، بل يُستخدم كأداة لترسيخ الفوقية اليهودية على الغير، وتعميق سياسات الرقابة والتمييز، خاصة تجاه الفلسطينيين. فالتقنيات الذكية تُدرَّب على بيانات منحازة وغير محايدة، ما يجعل من أنظمة القرار أدوات تُعيد إنتاج الانحيازات العنصرية القائمة.

وفي السنوات الأخيرة، أولت اللجنة الفرعية للعلم والتكنولوجيا في الكنيست اهتماماً متزايداً بالذكاء الاصطناعي، وأصدرت تقارير عدة تدعو إلى وضع خطة وطنية شاملة وطموحة تستثمر في هذه التقنية وتستفيد منها في قطاعات كالتعليم والصحة والبيئة. لكن هذه التقارير تتجنّب الخوض في التداعيات السياسية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي داخل منظومة استعمارية عنفيّة. فظواهر مثل التمييز الخوارزمي ليست مجرّد أخطاء تقنية، بل انعكاسات مباشرة لمنطق السيطرة الإثنية والدينية المترسخ في البنية السياسية الإسرائيلية.

وعلى صعيد سوق العمل، تتجاهل الدولة التداعيات الاجتماعية للتحوّلات الناجمة عن الأتمتة، رغم التقديرات التي تشير إلى أن نحو 80% من الوظائف في إسرائيل مهدّدة بالتغير أو الزوال بسبب الذكاء الاصطناعي. إلا أن السياسات الحكومية لا توفر الحماية اللازمة للعمال، ولا تطرح حلولاً انتقالية عادلة، مما يعكس انشغالها بالابتكار على حساب العدالة الاجتماعية.

أما في المجال المعلوماتي، فإن إسرائيل لا تتعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي مثل التضليل الإعلامي والتزييف المعلوماتي باعتبارهم تهديدات ديمقراطية، بل توظفها ضمن أدوات الحرب السيبرانية والدعاية. ويُحتمل أن تستخدم تقنيات مثل "التزييف العميق" لتشويه السرديات الفلسطينية أو تبرير عملياتها العسكرية، ما يجعل الذكاء الاصطناعي امتداداً رقمياً لآلة الاحتلال.

والمثير للقلق، هو غياب هيئة مستقلة للإشراف على استخدامات الذكاء الاصطناعي وتقييم مدى التزامه بالمعايير الأخلاقية والقانونية. هذا الغياب المؤسسي لا يبدو عرضياً، بل هو انعكاس لفلسفة الحكم الإسرائيلي القائمة على تعظيم السيطرة وتقليص المساءلة. فالتفوّق التكنولوجي الذي تسوّقه إسرائيل يخفي وراءه مشروعاً استعمارياً يعاد إنتاجه بلغة معولمة.

من هنا، لا يمكن الحديث عن "عدالة خوارزمية" في السياق الإسرائيلي من دون الاعتراف بطبيعة النظام نفسه. فالمسألة لا تتعلق بوضع خطط تنظيمية أو استراتيجيات ابتكار، بل بإعادة النظر في الأسس السياسية التي تُسخَّر فيها التكنولوجيا لخدمة التفوق الإثني ونزع الإنسانية عن الآخر. وكل مقاربة تقنية تتغاضى عن هذه الحقيقة البنيوية، تبقى أسيرة سردية الدولة، ولا تفتح المجال لنقاش نقدي حقيقي.

في ظل التداخل المتزايد بين التكنولوجيا والسياسة، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجالاً محايداً أو منفصلاً عن منطق السلطة. بل أصبح أداة مركزية تُعيد من خلالها الدول، خصوصاً الكيانات الاستعمارية كإسرائيل، صياغة أدوات السيطرة بأشكال أكثر تعقيداً وفاعلية. فيُستخدم الذكاء الاصطناعي ليس فقط لتعزيز الكفاءة أو تقديم الخدمات، بل لإعادة تعريف المشروع الاستعماري. ومن دون مراجعة جذرية للمنظومة السياسية والحقوقية القائمة، فإن أي "ابتكار" سيبقى محكوماً بمنطق الإقصاء، وستظل التكنولوجيا أداة سياسية لإدامة الهيمنة، لا وسيلة لتحقيق العدالة أو المساواة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور