الأربعاء 09 تموز , 2025 03:43

نتنياهو يسوّق هزيمته على عتبة البيت الأبيض… والمقاومة تُفاوض من قلب النار

لقاء ترامب ونتنياهو وعملية بيت حانون

من قلب الميدان المشتعل في قطاع غزة، إلى قاعات التفاوض في الدوحة، وعلى أعتاب البيت الأبيض، تتكشّف معادلة معقدة لكنها واضحة لمن يقرأ السياسة بلغة الوقائع لا الأوهام: هناك من يقاتل ويصمد ويُعيد رسم ميزان القوة من تحت الركام، وهناك من يسوّق الهزيمة بأوهام "النصر الوشيك" في العواصم الكبرى.

بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال، يخوض معركته الأشدّ ضراوة منذ تولّيه السلطة: معركة البقاء السياسي تحت وقع خسائر متتالية في غزة، ضغط شعبي داخلي متصاعد، وملاحقة دولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية. ومع ذلك، لا يتردّد في مواصلة الاستعراض السياسي، محاولًا قلب الهزيمة في الميدان إلى أوراق مفاوضات في واشنطن، حيث يقف على عتبة البيت الأبيض، محاولًا إقناع دونالد ترامب بأن "النصر بات قريبًا".

لكن الحقيقة على الأرض تختلف جذريًا: في بيت حانون، نفّذت كتائب القسام كمينًا مركّبًا أدى إلى مقتل 5 جنود "إسرائيليين" وجرح 14 آخرين، بينهم ضباط في وحدة "يهلوم" الهندسية الخاصة. هذه العملية النوعية لم تكن معزولة عن السياق العسكري أو السياسي، بل كانت بمثابة رسالة مباشرة إلى كل من يحاول تجاوز المقاومة في معادلة التفاوض، وعلى رأسهم نتنياهو وترامب.

غزة تفاوض من قلب النار

ما يجري في الدوحة ليس مفاوضات في ظروف اعتيادية، بل حوار تحت النار، تمليه موازين قتال حيّة تصنعها المقاومة بدماء مقاتليها. ومع كل محاولة "إسرائيلية" لتثبيت "صورة نصر"، تأتي عملية جديدة لتنسف هذه الرواية. هكذا هو الحال مع كمين بيت حانون، الذي جاء ليؤكد أن حماس تفاوض من موقع قوة، لا من موقع انكسار.

حركة حماس، عبر تصريح عزت الرشق، كانت واضحة: "لا إطلاق سراح للأسرى إلا بشروط المقاومة". هذا الموقف لا يعكس مجرد عناد سياسي، بل قراءة دقيقة لواقع الحرب. فبعد 21 شهرًا من العدوان، بات "الجيش الإسرائيلي" عاجزًا عن استعادة أسراه بالقوة، فيما المقاومة ما زالت تحتفظ بأوراق تفاوضية قوية، أبرزها الأسرى الأحياء.

نتنياهو في واشنطن: تسويق الهزيمة بعبارات النصر

خلال لقائه الثاني مع ترامب، حاول نتنياهو كعادته اللعب على الحبال: تارة يتحدث عن استمرار الحرب لتحقيق أهدافها، وتارة يلوّح بانتصارات وهمية كمبرر لأي انسحاب تكتيكي قادم. في تصريحه على منصة "إكس"، قال إن أهدافه تشمل "القضاء على قدرات حماس وضمان ألا تُشكّل غزة تهديدًا بعد الآن".

لكن ميدانيًا، لا شيء يدعم هذه المزاعم. فرغم استخدام 5 فرق نخبة وشنّ أكثر من 70 ألف غارة، لا تزال المقاومة صامدة، وقادرة على تنفيذ كمائن نوعية، آخرها ما وصفه "الإعلام الإسرائيلي" بـ"الانفجار الكبير" في بيت حانون، والذي أربك الجيش وأصاب مستوطنات الغلاف بحالة ذعر، رغم أنها أُعلنت "آمنة للعودة".

أوراق حماس وتفكك جبهة نتنياهو

المفارقة أن نتنياهو لا يفاوض حماس فقط، بل يفاوض "الداخل الإسرائيلي". فأكثر من 70% من "الإسرائيليين" يعتقدون أن الحرب لم تحقق أهدافها، بينما تكشف تقارير عن مقتل أكثر من 883 "جنديًا إسرائيليًا" منذ بدء العدوان، وإصابة ما يفوق 6000 آخرين. فشل نتنياهو في تبرير هذه الخسائر، وفشله في استعادة الأسرى، يضغطان عليه سياسيًا، ويجعلاه في أمسّ الحاجة إلى اتفاق يحفظ ماء وجهه.

لكن هذا الاتفاق لن يُفرض بشروط نتنياهو. فكما قالت حماس، الصفقة القادمة يجب أن تُبنى على "معادلات الميدان"، أي على الوقائع التي رسمتها المقاومة، لا على الأوهام التي يسوّقها الاحتلال.

لماذا يكثف الاحتلال هجماته الآن؟

الإجابة هنا تكمن في علم النفس السياسي والعسكري. جيش الاحتلال، بعد فشله في تنفيذ خطة "الحسم السريع"، بات يعتمد على تكتيك "الانسحاب بشرف". هو يريد قبل أي اتفاق وقف إطلاق نار أن يترك غزة مدمّرة، وأن يدّعي القضاء على ثلاثة ألوية من أصل خمسة. ولتحقيق ذلك، يكثّف عملياته في محاور خان يونس، القرارة، السطر، وبيت حانون.

لكن الواقع لا يسعفه: فرق الهندسة التابعة له تتكبد خسائر متتالية، ووحداته الخاصة – ككتيبة نتساح يهودا ويهلوم وإيغوز – تعرّضت لنكبات ميدانية أدت إلى فرار الجنود وترك المدرعات خلفهم. هنا تحديدًا، يفشل نتنياهو في إقناع ترامب بأن "الإنجازات" المحققة على الأرض كافية.

ترامب والبيت الأبيض: الضغط الأميركي وحده لا يكفي

ترامب، الذي يسعى إلى وضع اسمه على "اتفاق تاريخي" جديد في الشرق الأوسط، بدأ يمارس ضغطًا فعليًا على نتنياهو. وحسب ما نقلته "يديعوت أحرونوت"، قال ترامب لنتنياهو خلال لقائهما: "سنتحدث حصريًا عن غزة، ويجب حل هذا الوضع المأساوي".

لكن هل الضغط كافٍ؟ ليس بالضرورة. فنتنياهو، المحاط بشركاء يمينيين متطرفين يرفضون إنهاء الحرب، يسعى إلى كسب الوقت. هو يعلم أن الاتفاق الذي يُصاغ في الدوحة، بدعم قطري وأميركي، لن يُكتب له النجاح ما لم يحصل على ضمانات واضحة: بأن حماس لن تعود إلى الحكم، وأن سلاح المقاومة سيتم تفكيكه، وأن البديل السياسي سيكون "قابلًا للترويض".

مقاومة تفاوض بشروطها… لا خضوع ولا انكسار

المقاومة الفلسطينية، على لسان قادتها، لا تقبل بهذا المنطق. فلا تهجير من غزة، ولا نزع للسلاح، ولا تسليم للقطاع، كما يريد نتنياهو. بل على العكس، تأتي كمائن المقاومة كوسيلة لتكريس معادلة: من يفاوض من تحت النار، لا يفاوض إلا بشروطه.

وفي ظل تقارير تؤكد أن القضايا الخلافية تقلصت إلى نقطة واحدة، يبدو أن المفاوضات بلغت مرحلة حساسة، وهي لحظة الحقيقة: إما الاعتراف بشرعية المقاومة، وإما استمرار الحرب، مع ما تحمله من خسائر إضافية للطرف "الإسرائيلي" المنهك.

معادلة الحسم الحقيقية

منذ بداية الحرب، حاول نتنياهو فرض شروطه بالقوة، لكن الحرب الطويلة التي دخلت شهرها الـ21 لم تحقق له شيئًا مما وعد به. في المقابل، نجحت المقاومة في فرض معادلات جديدة: من جباليا إلى الشجاعية، ومن خانيونس إلى بيت حانون، رسمت خطًا بيانيًا تصاعديًا لنسقها العملياتي.

وفيما يقف نتنياهو عند أبواب البيت الأبيض يُسوّق نصرًا مزيّفًا، تجلس المقاومة في قلب اللهب، تفاوض بلغة القوة، وتدرك أن المعركة ليست فقط على الأرض، بل على الرواية، وعلى من يملك حق تحديد نهاية الحرب وشكل ما بعدها.

هذا هو الفرق بين من يقاتل من أجل التحرر، ومن يراوغ من أجل البقاء السياسي.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور