الركيزة الأساسية في كلام برّاك هي قوله بأن السلاح وحلّه مسألة داخلية وأن الإدارة الأمريكية لن تتدخل في هذا الشأن. دلَّ هذا الكلام على أن الإدارة الأمريكية ليست في وارد صب اهتمامها في الساحة اللبنانية في هذا الوقت، فالملفات العالمية وأزماتها ليست في حال من الركود بل تلتهب تدريجياً وأهمها بالنسبة للإدارة الصين وروسيا وإيران، فالانهماك الأميركي المباشر في لبنان يؤثر تلقائياً على جهود حلحلة الأزمات في الملفات الأخرى، وأوضح برّاك ذلك حينما قال أن الحل من عدمه في لبنان لا يؤثر على التحولات في المنطقة (الإشارة إلى مسار السلام مع الكيان)، بل يبقي لبنان في الخلف وهي إشارة إلى أن الإدارة لا تعطي لبنان ووكلاءها فيه تحديداً اهتماماً بناء على ما يمكن أن تتأثر به مصالحها، لكنها فقط جولات خفض تصعيد لتأمين السلم العسكري والأمني للكيان. لكن هل يعني ذلك أن الكيان لا يريد الحرب مع لبنان؟
حتى المبعوث الأميركي البارحة صرّح بأن الثقة بالإسرائيلي هي كالمشي على الماء، ليس لأنه لا يعلم بما ينوون القيام به، بل لإدراكه أن نتنياهو وصل إلى واشنطن وهناك سيتم رسم خطوط المرحلة.
أصبح واضح للإدارة الأمريكية أن الحروب التي يخوضها نتنياهو في مختلف دول المحور لا طائل منها، فبالرغم من أنها متقدمة تكتيكياً لكن على المدى الاستراتيجي لن تحقق المطلب-الإخضاع والكسر. وترامب الذي يسعى جاهداً في تثبيت نفسه أولاً كقائد تاريخي للولايات المتحدة الأمريكية من خلال تكريس النفوذ الأميركي في غرب آسيا والعالم لن يقبل بما يهدد طموحاته، لكن نتنياهو يحاول جاهداً إقناع ترامب بمخططاته، فالزيارة إلى واشنطن يحاول خلالها خلق جو محيط بترامب للتأثير على توجهاته من خلال اللقاءات مع اللوبي الذي له نفوذ قوي فيه، وعدد من المسؤولين في محيط الرئيس.
من هنا تكشف الزيارة إلى واشنطن ما هي أهداف نتنياهو للمرحلة القادمة، ومدى التقارب بينه وبين ترامب، لكن جميع الملفات ترتبط بالملف الأكثر تأثيراً على الداخل الاستيطاني وهو الحرب على غزة.
في الأسابيع الأخيرة زادت فرص الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار في غزة، لكن ومع ازدياد الفرص ارتفع منسوب عمليات المقاومة وأظهرت عملياتها أنها تستحكم تدريجياً في الميدان (برياً) من خلال نمط حروب العصابات والمؤثر بشكل كير على حركة جيش الاحتلال ويجعله عرضة استهدافات توقع قتلى وجرحى في صفوفه وربما تؤدي إلى أسر. وهنا يصبح نتنياهو أمام استنزاف عالي الوتيرة لقواته.
هذا الاستنزاف وفي ظل مطالبات داخلية عالية النبرة لإيقاف الحرب وأزمة التجنيد مع الحريديم وتلويح اليمين الدائم بالاستقالة من الحكومة، تجعل هذه العوامل-نتنياهو- أمام خيارين إما القبول بصفقة توقف الحرب (طبعاً تشمل شروط حماس)، أو رفضها والذهاب نحو حلول خارجية، والمقصد من ذلك الحرب.
سيناريوهات ما سيقدم عليه الكيان
الحرب الأخيرة مع إيران لم تكن نتائجها كما توقع نتنياهو وبما أقنع به الرئيس ترامب رغم محاولات التغطية الاعلامية على الفشل بأن البرنامج النووي قد انتهى، لكن الغموض في الملف النووي لدى إيران يثير ارتياباً كبير لدى الكيان والإدارة الأمريكية، إلا أن تكرار الحرب على إيران ستكون له عواقب كبيرة، فالشارع الإيراني بات أكثر صلابة وعزماً على المضي في التقدم النووي لما فيه مصلحة للبلاد، والقوات العسكرية من جيش وحرس الثورة تعيد ترميم قدراتها بعد التجربة العسكرية الأخيرة، وهذا ما يجعل قرار الحرب على إيران أكثر تعقيداً.
أما بالنسبة للبنان، فلا يمكن لعدوان جوي أن يحقق نتائج عملياتية وتجريد الحزب من سلاحه، ولا الخيار البري المفتوح أقل خطورة، لكن هنالك أيضاً خيار الأيام القتالية والذي يمكن أن يهدئ الداخل الاسرائيلي وأن يكون منفساً لنتنياهو لإبقاء الهيمنة على التصعيد وزيادة الضغط السياسي الداخلي في لبنان.
خلاصة القول، بدلاً من أن تكون حروب نتنياهو العسكرية عوامل مساعدة في تحقيق منجزات استراتيجية، باتت عوامل تعقيد أثرت على عملية صنع القرار الأمريكية، ويمكن لمس ذلك انطلاقاً مما صرّح به المبعوث بالأمريكي "توم برّاك" البارحة، فمدلولات الكلام تشير إلى تراجع أمريكي تجاه لبنان، وأسباب ذلك هي:
نتائج الحرب على إيران
كانت الحملة العسكرية على إيران تهدف لإسقاط رأس محور المقاومة- إيران- وبذلك تصبح كل قوى وأضلع المحور في لحظة ضعف شديد إما تُسحق أو ترضخ للسياسات الأمريكية الاسرائيلية، إلا أن فشل الأهداف العسكرية وما لحق بالداخل الاسرائيلي من خسائر قلب المعادلة، وجعل أصحاب القرار في واشنطن في مأزق دفعهم للجوء لحل يفضي لوقف إطلاق النار، وبحسب الإعلام الغربي بات لدى الإدارة الأمريكية قناعة بأن نتائج الحرب أثرت على مواقف قوى المحور بالشكل الذي زادت اندفاعتهم نحو المواجهة وهو ما دفع حزب الله إلى التصلب في موقفه إزاء سلاحه.
المواجهة اليمنية
أظهر أنصار الله قدرات عسكرية متقدمة، دفعت الأميركي إلى اتفاق وقف إطلاق نار، وجعلت الكيان المؤقت لوحده في المواجهة، وخلالها أظهرت الأعمال العسكرية اليمنية من خلال الصواريخ المُطلقة نحو الكيان ودقة استهدافها له أن موقفها لن يتغير من المساندة بل وقادرة على الارتقاء في التصعيد من خلال زيادة الاستهدافات نوعاً وكماً.
الحرب على قطاع غزة
تزداد أعمال الفصائل الفلسطينية في القطاع كمّا ونوعاً، ولازديادها دلالة على الاستحكام المتدرج بالمعركة من خلال انتهاج حروب العصابات بعدما أمست قوات الاحتلال متمركزة في القطاع وشماله تحديداً، وهذا التمركز يجعلها أكثر عرضة للاستهداف وإيقاع خسائر فيها، ومع تصاعد العمليات تزداد المطالبات في الداخل المحتل لإيقاف الحرب، وهذا ما يضع نتنياهو أمام مأزق الهيمنة الأمريكية على القرار الاسرائيلي في حال عدم التماهي مع سياسات الإدارة وتقييمها للوضع.
وضع جيش الاحتلال
تزداد الشكاوى الصادرة عن جنود جيش الاحتلال وأهاليهم إزاء استمرار الحرب على القطاع، فعدد القتلى والاصابات يزداد، وتزداد معها المشاكل النفسية للجنود والتي دفعت عدداً منهم للانتحار.
وأمام هذه الانتكاسات المتزايدة، وبناءً على ما ينشر إعلامياً من اعتراضات للجنود وعائلاتهم فإن تقييم وضع جيش الاحتلال يشير إلى أن إعادة فتح جبهة لبنان، يزيد من حجم المشكلة ويضع الجيش أمام مخاطر كبيرة.
ثبات موقف حزب الله
واجهت المقاومة في لبنان حملات إعلامية ضخمة وتهويلية تفيد بأن نزع سلاح المقاومة قرار لا مفر منه، وهو قرار يعد تهديداً وجودياً للمقاومة وبيئاتها الحاضنة، لكن الحزب ورغم التصعيد الإعلامي والمتزامن مع اعتداءات إسرائيلية مكثفة، لم يغير في موقفه بل وطيلة الفترة الممتدة من انتهاء الحرب على إيران إلى اليوم ظل متمسكاً بموقفه من السلاح وأظهر استعداداً للمواجهة في سبيل منع تحقيق ذلك، وهذه الصلابة والثبات على الموقف أفشلت جميع المحاولات الدعائية والعدوانية من تثبيت ذلك.
الإخفاق في تثبيت المشروعية الأمريكية
تكثيف الحركة الأمريكية تجاه لبنان من خلال مبعوثها إليه "برّاك" كانت تهدف إلى تمكين السياسات الأمريكية لدى الجهات الرسمية في لبنان، إلى أن الموقف اللبناني وبحكم معرفة الظرف الداخلي وخطورة الموافقة على سياسات أميركا لنزع سلاح المقاومة، أتى الرد اللبناني بصيغة مرنة اقتضى أن يستجيب فيه الاحتلال لمطالب الخروج من لبنان ووقف الاعتداءات وتحرير الأسرى كخطوة أساسية للبدء بالطرح الذي يعالج مسألة سلاح المقاومة، وهذا الموقف- اللبناني الرسمي- أحبط بالتالي محاولات تثبيت المشروعية الأمريكية التي قاد جهودها "توم باراك" بمساعدة وكلاء الداخل اللبناني.
موقف المقاومة الدفاعي
أبقت المقاومة على موقفها من الحلول الدبلوماسية التي تعمل عليها الدولة اللبنانية، محافظةً على موقفها من الدفاع عن لبنان كمقاومة شرعية للاحتلال، فالقوى الوكيلة للخارج في لبنان تعتبر أن قرار الحرب والسلم بيد حزب الله، بينما الأخير تعاون من الدولة في هذا الشأن من دون أي رد على الاعتداءات الإسرائيلية التي تستهدفه تحديداً أو القيام بخطوة لإخراج العدو من الأراضي اللبنانية. هذا الموقف فرّغ العدو والإدارة الأمريكية من خلفه من حجج تحكم الحزب بلبنان وأنه المهيمن على القرار اللبناني، بينما ظهر العدو أنه المعتدي وغير المبالي بأي اتفاقات.
خلاصة
من خلال رسائل باراك في لبنان، يتضح أننا أمام ثلاث خيارات ممكنة الحصول، الأول وهو خيار الخديعة، أي أن تكون رسائل الرضا ما هي سوى تمهيد لهجوم إسرائيلي مفاجئ، لكن هذه الخديعة انتفت بعدما أبدت المقاومة والبيئة الحاضنة لها حذراً من هذا السيناريو بناءً على التجربة الأخيرة أي الحرب التي بدأها الإسرائيلي بسلسلة من الأعمال الأمنية، وحتى المبعوث الأميركي نفسه، لم يعط من خلال تصريحاته مشروعية للكيان بالقيام بحرب، إذ لم يشر إلى أن الحلول الدبلوماسية انتهت بل عبر عن رضاه بما قدمته الدولة اللبنانية من رد على رسالته. أما الخيار الثاني فهو توتير وتصعيد للوضع الداخلي في لبنان، لكن برّاك أوضح أن ملف السلاح وكيفية التعامل معه هي شأن لبنان لا دخل للإدارة الأمريكية به وبهذا القول تكون الإدارة الأمريكية قد وضعت وكلائها في لبنان في موقف يكونون فيه لوحدهم في التعامل مع ملف السلاح لكنه موقف صعب ولا يستطيعون لوحدهم إحداث تقدم فيه بدون مساندة غربية وإسرائيلية. أما الخيار الثالث وهو قرار الحرب، فإن حزب الله ومن خلال الحفاظ على موقفه الدفاعي والتزامه بالوقوف خلف الدولة في معالجتها الدبلوماسية للتعديات الإسرائيلية، أفقد الإدارة الأمريكية والكيان ورقة مشروعية الحرب على لبنان، وعليه فإذا ما أعطي الضوء الأخضر للكيان من قبل الأميركي بشن حرب عدوانية، ستكون حرباً لا مشروعية لها وبالتالي دون أفق سياسي أو قدرة على استكمالها حينما تصبح معاكس لتطلعاتهم.
وعليه ما جاء به المبعوث الأميركي إلى لبنان شكل دلالة على تراجع الفعالية الأمريكية تجاه لبنان ولو بشكل مؤقت إلى حين انتهاء زيارة نتنياهو إلى واشنطن.