الخميس 07 آب , 2025 04:06

إعادة تشكيل الأمن الإقليمي: كيف تعيد واشنطن هندسة الأمن الصاروخي في غرب آسيا؟

منظومات الدفاع الجوي AIM-120C-8

في خطوة تحمل أبعاداً استراتيجية تتجاوز مجرد صفقات تسليح تقليدية، بدأت شركة "رايثيون" الأمريكية مؤخرًا بتسليم منظومات الدفاع الجوي المتقدمة AIM-120C-8 لكل من السعودية، مصر، والكيان الإسرائيلي، ضمن إطار استخدام هذه الصواريخ ضمن نظام NASAMS للدفاع الجوي الأرضي. ورغم أن الخبر قد يبدو روتينيًا، فإن توقيته وطبيعة الأطراف المستفيدة منه تكشف عن مسار جديد تقوده الولايات المتحدة لإعادة هندسة شبكة الأمن الصاروخي في غرب آسيا.

من الدفاع الوطني إلى شبكة إقليمية

لم يعد من المجدي، في نظر الولايات المتحدة، أن تكتفي كل دولة بحماية مجالها الجوي بمعزل عن جيرانها، خصوصًا في ظل تصاعد التهديدات المشتركة من اليمن وإيران. بدلًا من ذلك، تتبلور الآن رؤية أمريكية لبناء "جدار اعتراض" متعدد الطبقات يشمل السعودية في الخط الأول، ومصر في الخط الثاني، ثم الكيان في الخط الأخير. هذه الشبكة تُعد غير رسمية لكنها مترابطة، وتسمح باعتراض الصواريخ أو المسيّرات في أكثر من نقطة، مما يضاعف فرص التصدي لها بنجاح.

استراتيجية تقاسم الأعباء

بعد تجربتها الأخيرة في البحر الأحمر ومفاوضاتها مع أنصار الله في اليمن، لم تعد الولايات المتحدة راغبة في لعب دور "شرطي المنطقة". فهي الآن تفضل أن يتحمل حلفاؤها المسؤولية الدفاعية بشكل مباشر، من خلال تزويدهم بمنظومات قابلة للتشغيل المتبادل، مثل NASAMS، ما يسمح ببنية دفاعية موحدة من حيث الصواريخ والتكنولوجيا وآليات الاشتباك. وبهذا، تخرج واشنطن تدريجيًا من دائرة الاستنزاف الميداني المباشر، دون أن تتخلى عن دورها القيادي.

دوافع كل طرف

رغم الطابع الجماعي للصفقة، فإن لكل دولة دافعها الخاص:

- السعودية تعرّضت خلال السنوات الماضية لهجمات متكررة من اليمن، أبرزها هجوم أرامكو عام 2019 الذي شكّل صدمة دفاعية. بعد الإعارة المؤقتة لمنظومة THAAD، باتت المملكة ترى في NASAMS وأمرام خياراً مستداماً لمواجهة صواريخ كروز والمسيّرات، وهي أكثر ما يهددها حاليًا.

- مصر تجد نفسها بحاجة لتحديث دفاعاتها الجوية التي لا تزال تعتمد على أنظمة قديمة مثل AIM-7. علاوة على ذلك، فهي معنية بحماية قناة السويس والبحر الأحمر من أي تهديد، خصوصًا بعد تصاعد التوترات في باب المندب.

- الكيان الإسرائيلي يسعى من جهته لتعويض النقص الحاد في مخزون صواريخه الاعتراضية، بعد تعرضه لهجمات صاروخية غير مسبوقة من إيران خلال ردّها على الاعتداء في حزيران 2025. وتمثل هذه الصفقة جزءاً من إعادة ترميم طبقة الدفاع الوسطى التي فشلت في التصدي لصواريخ كروز الإيرانية المتقدمة.

كسر احتكار "التفوق النوعي"

تقليديًا، كانت واشنطن تتحفظ على بيع مثل هذه الصواريخ المتقدمة لدول عربية، حفاظًا على ما يُعرف بـ "التفوق العسكري النوعي" للكيان الإسرائيلي. إلا أن التحوّل اللافت في هذه الصفقة يعكس أولويات أمريكية جديدة، حيث بات التهديد الإيراني أكثر خطورة من أي خصومة عربية–إسرائيلية مفترضة. وبما أن هذه الصواريخ تُستخدم في سياق دفاعي وليس هجومي (أي من الأرض ضد التهديدات الجوية، وليس من المقاتلات ضد أهداف أرضية)، فقد وجدت الإدارة الأمريكية في الصفقة توازنًا مقبولًا يحافظ على أمن حليفها دون المساس بـ"التفوق".

صفقة ما بعد الفشل الدفاعي

تأتي هذه الصفقة بعد أن كشفت الحرب الإسرائيلية–الإيرانية في يونيو 2025 عن ثغرات مقلقة في منظومة الدفاع الصاروخي للكيان المؤقت. فقد نجحت إيران، من خلال "تكتيك الإغراق الصاروخي"، في تجاوز أكثر الأنظمة الدفاعية تطورًا عبر استخدام مزيج من المسيّرات والصواريخ الباليستية والكروز. وأمام هذا التحدي، لم يعد بالإمكان الاعتماد فقط على القبة الحديدية أو مقلاع داوود، بل تطلب الأمر تعزيز الطبقة المتوسطة، وهنا تحديدًا تبرز أهمية AIM-120C-8.

AIM-120C-8

القدرات التقنية لصواريخ AIM-120

صواريخ أمرام من نوع AIM-120C-8 تُعد من أحدث النسخ المتوفرة، وتتميّز بقدرة عالية على مقاومة التشويش، إضافة إلى وصلة بيانات ثنائية الاتجاه تتيح تحديث معلومات الهدف أثناء الطيران. هذه الصواريخ من نوع "أطلق وانسَ"، أي أنها تتجه نحو الهدف تلقائيًا بعد الإطلاق، مستعينة برادار نشط داخلي ونظام ملاحة بالقصور الذاتي.

وفي الاستخدام الأرضي، يتم إطلاقها عبر نظامNASAMS، الذي يشمل رادارًا، مركز قيادة، وعدة قاذفات. وتُستخدم الصواريخ في الطبقة الدفاعية الوسطى، وهي مخصصة لاعتراض أهداف مثل صواريخ كروز والطائرات المسيّرة والمقاتلات ذات البصمة الرادارية المنخفضة.

مكاسب الكيان الإسرائيلي من الصواريخ الجديدة

- المرونة: نفس الصاروخ يمكن استخدامه جويًا وأرضيًا، مما يبسّط سلاسل الإمداد والتدريب.

- التكامل الشبكي: يعمل ضمن منظومة دفاعية متكاملة مع أنظمة مثل باتريوت ومقلاع داوود.

- الفعالية: أثبت فاعلية في اعتراض التهديدات الأساسية التي تستخدمها إيران وحلفاؤها.

- الوصول إلى الإمدادات: على عكس بعض الصواريخ الإسرائيلية، يمكن الحصول على أمرام بسهولة من الحلفاء.

التحديات والسلبيات

لكن، لا يخلو هذا النظام من نقاط ضعف:

- الكلفة المرتفعة: الصاروخ الواحد قد يتجاوز سعره مليون دولار، ما يجعله غير اقتصادي لاعتراض طائرات مسيرة زهيدة الثمن.

- استنزاف المخزون: كثافة الاستخدام تؤدي إلى استنزاف سريع، في وقت يصعب فيه زيادة الإنتاج عالميًا بنفس الوتيرة.

- المدى المحدود: عند إطلاقه من الأرض، لا يصل مداه إلى نفس مستوى الإطلاق الجوي، ما يجعله مناسبًا للدفاعات المناطقية وليس الاستراتيجية.

- هجمات الإغراق: يمكن للنظام أن يُرهق أمام موجات هجوم متزامنة، كما حدث مؤخرًا في المواجهات مع إيران وحزب الله.

خلاصة وتحليل

صفقة AIM-120C-8 تمثّل أكثر من مجرد خطوة لتحديث الترسانات الدفاعية؛ إنها ترجمة عملية لاستراتيجية أمريكية جديدة تسعى إلى:

- بناء شبكة إقليمية دفاعية غير رسمية، تعتمد على توزيع جغرافي للطبقات الدفاعية.

- تقليل التدخل الأمريكي المباشر عبر تمكين الحلفاء بقدرات اعتراض ذاتية.

- تثبيت الردع ضد إيران من خلال إظهار وحدة دفاعية بين "أعداء الأمس" برعاية أمريكية.

- ترميم الثقة داخل الكيان المؤقت بعد الأداء الهزيل لمنظومته الدفاعية في المواجهة الأخيرة.

ومع كل ما تحققه هذه الصفقة من مكاسب تكتيكية وإستراتيجية، فإنها تظل حلاً مؤقتًا، هشًا أمام التحديات الاقتصادية والتكنولوجية التي تفرضها البيئة الأمنية المتغيرة، وهو ما يعني أن مستقبل الدفاع في المنطقة قد يشهد تحولات أكبر قريبًا، تتجاوز "الأمرام" وتصل إلى منظومات جديدة بالكامل.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور