في خضم الحروب المعاصرة، لم تعد القوة النارية الهائلة وحدها معيارًا للحسم، بل برزت أهمية الوحدات الصغرى (مثل الفصائل والسرايا) بوصفها ركيزة استراتيجية تفوق، أحيانًا، أهمية الفرق المدرعة أو الألوية الكبرى. وقد تجلّى هذا التحول بوضوح في معركتي "طوفان الأقصى" في قطاع غزة، و"أولي البأس" في جنوب لبنان. هاتان المعركتان قدمتا نموذجًا ميدانيًا حيويًا لدراسة أثر قتال التشكيلات الصغيرة، وقدرتها على قلب الموازين العسكرية في مواجهة عدو يمتلك تفوقًا تقنيًا هائلًا.
أولاً: الخصوصية الجغرافية وبيئة القتال
تميّزت بيئة القتال في المعركتين بتباينات واضحة. ففي غزة، خاضت المقاومة قتالًا ضمن بيئة حضرية مكتظة، من الأزقة والأنفاق والمباني المتهدمة. أما جنوب لبنان، فكان ميدان المعركة جبليًا مفتوحًا، طغى عليه طابع "حرب الفلوات"، حيث اعتمدت المقاومة على التضاريس الوعرة والغطاء الطبيعي لشن كمائن دقيقة ومنهكة للعدو.
لكن رغم هذا التباين، برز قاسم مشترك مهم: القتال الأرضي الذي تقوده الوحدات الصغرى كان العامل الحاسم في كلا الميدانين، فيما تراجع دور الدروع التي أصبحت هدفًا سهلاً في وجه صواريخ المقاومة الدقيقة وكمائنها المدروسة.
ثانيًا: من المركزية إلى اللامركزية – تحوّل في إدارة المعركة
تُظهر التجربتان أن الخطة المركزية تفقد فاعليتها لحظة الاشتباك الأول، حيث تتحول المعركة إلى ساحة فوضى غير قابلة للتحكم الكامل من القيادة العليا. في هذه اللحظة، تكون الوحدات الصغرى في الصف الأول، هي من يحدد معالم المواجهة الفعلية. فعبر هذه الوحدات تُكتشف التحصينات، وتُواجه الكمائن، وتُقاس معنويات العدو على الأرض.
وبالتالي، تتحول الفصيلة أو السرية إلى عنصر فاعل مستقل يُجبر القيادة العليا على تكييف خططها بصورة آنية. وهذا يتطلب وحدات صغيرة ذات كفاءة، ومرونة تكتيكية عالية، وقدرة على اتخاذ المبادرة دون انتظار الأوامر.
ثالثًا: الوظيفة الحاسمة للوحدات الصغرى
للوحدات الصغرى وظائف لا يمكن الاستغناء عنها في الحروب الحديثة، وتحديدًا في العمليات البرية:
- السيطرة على الأرض: لا يمكن للطائرات أو المدفعية "تطهير" مبنى أو تأمين شارع. وحدها وحدات المشاة تستطيع ذلك.
- الاستطلاع المباشر: في غياب معلومات دقيقة، تتحرك الوحدات الكبرى "خبط عشواء". وهنا، تلعب الوحدات الصغرى دور "عيون وآذان" الجيش.
- المرونة والارتجال: المقاومة تبني تكتيكاتها على المباغتة والكمائن. والاستجابة الفعالة لا تتم إلا من خلال تشكيلات قادرة على المبادرة واتخاذ القرار دون الرجوع إلى القيادة.
رابعًا: العلاقة الجدلية مع الوحدات الكبرى
رغم محورية الوحدات الصغرى، لا يمكنها العمل دون دعم الوحدات الكبرى. فالألوية تؤمن:
- الإسناد الناري (مدفعية وطيران تكتيكي)
- الإمداد اللوجستي (ذخيرة، طعام، إخلاء طبي)
- الاحتياط العملياتي عند الفشل أو التعثر
ومن هنا، فإن نجاح المعركة يعتمد على تكامل هذين المستويين: الوحدات الصغرى تقاتل، والوحدات الكبرى تمكّن.
خامسًا: نماذج ميدانية من "أولي البأس" و"طوفان الأقصى"
عقيدة المقاومة، خصوصًا في جنوب لبنان، تجسدت فيما يسمى عقيدة "أولي البأس"، والتي تستند إلى:
- الدفاع الشبكي: شبكة من المواقع المحصنة صغيرة الحجم (3–5 أفراد) تنتشر في التضاريس دون أن تكون قابلة للاجتثاث بسهولة.
- صيادو الدبابات: فرق صغيرة مدرّبة على استخدام صواريخ موجهة من مواقع مموهة لاستهداف الدروع بدقة.
- استنزاف القيادة والسيطرة: كل ضربة صغيرة على دبابة أو آلية تخلق تأثيرًا نفسيًا وتكتيكيًا يتجاوز حجم الإصابة.
وفي غزة، تكثّف القتال في بيئة مدنية معقّدة، حيث كان لكل مبنى وزن تكتيكي، ولكل نفق وظيفة قتالية. وتفوقت المقاومة بفضل وحدات صغيرة عالية التخصص نفذت الكمائن، وأدارت المعركة على الأرض بشروطها الخاصة، مجبرة العدو على التريث والتراجع في أكثر من محور.
سادسًا: آثار النجاح والفشل
يتضح أن نجاح الوحدات الصغرى يؤدي إلى:
- تنفيذ خطط الألوية بنجاح، رفع المعنويات، توفير في الموارد والذخائر، الحفاظ على زخم الهجوم.
بينما يؤدي فشلها إلى: تعطيل المهام الكبرى، كشف الجبهات الأخرى للخطر، استنزاف القوات والدعم، تراجع المعنويات وتآكل الثقة بالقيادة.
سابعًا: خلاصة واستنتاجات
- القتال لم يعد يُحسم بالقوة الأكبر بل بالكفاءة الأدق. جيش يملك مئات الدبابات قد يهزم أمام سرايا صغيرة مدربة تدريبًا عميقًا.
- بيئة القتال تحدد طبيعة التكتيك: المدن تحتاج إلى تكتيك "تطهير"، والتلال تحتاج إلى "كمائن"، ولا يمكن تطبيق خطة موحدة.
- روح الجيش تبدأ من القاعدة: الفشل في مجموعة مشاة قد ينهار على أثره لواء كامل بسبب انهيار المعنويات.
- المرونة هي عنوان النصر: من يمتلك وحدات صغرى مبادرة، متكيفة مع الميدان، يكون الأسبق في خلق التفوق.
خاتمة
أعادت معركتا "طوفان الأقصى" و"أولي البأس" رسم خريطة الفهم العسكري. لم تعد حرب الجيوش تُدار فقط من غرف العمليات، بل من زوايا الأزقة، ومغارات الجبال، والأنفاق العميقة. ومن داخل هذه البيئات، أثبتت التشكيلات الصغرى للمقاومة أن "الحرب الذكية" لا تحتاج إلى ضخامة، بل إلى حنكة ومهارة وتكتيك قاتل. ومن يفشل في فهم هذا التحوّل، يحكم على نفسه بالاستنزاف والتآكل.
الكاتب: غرفة التحرير