الأربعاء 06 آب , 2025 12:33

كيف يمكن ترجمة الاعتراف بـ "دولة فلسطينية"؟

في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المنطقة والعالم، يعود النقاش حول حقيقة الدولة الفلسطينية إلى الواجهة، لا سيما مع إعلان فرنسا نيتها الاعتراف بفلسطين كدولة في سبتمبر/أيلول المقبل، وتلميحات من بريطانيا وكندا باتخاذ خطوات مماثلة. هذا الزخم السياسي لا ينفصل عن التطورات الميدانية منذ تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، ولا عن التعقيدات البنيوية التي حالت دون قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة منذ عقود.

ورغم اعتراف أكثر من 150 دولة حول العالم بدولة فلسطين، وامتلاك السلطة الفلسطينية تمثيلاً دبلوماسياً واسعاً، فإن الواقع الميداني والسياسي الذي أرسته إسرائيل منذ احتلالها الاراضي الفلسطينية، اضافة للواقع القانوني لا يزال يُضعف من مقومات هذا الكيان ويجرده من عناصر الدولة المكتملة وفق القانون الدولي. فالاتفاقيات والرمزية الدبلوماسية، وإن حملت دلالات سياسية، تبقى قاصرة عن إنفاذ السيادة ما لم تتوافر الشروط الفعلية لقيام دولة مستقلة.

تُحدّد اتفاقية مونتفيديو لعام 1933، وهي إحدى الوثائق المرجعية في القانون الدولي، أربعة معايير لقيام الدولة: سكان دائمون، وحكومة فاعلة، وإقليم محدد، وقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى. وإذا كانت الضفة الغربية وقطاع غزة تستوفيان الشرط الأول بوجود سكان دائمين، فإن المعايير الأخرى لا تزال محل نزاع أو قصور.

فمن جهة، تخضع مناطق واسعة من الضفة الغربية لسيطرة مباشرة أو غير مباشرة من قبل كيان الاحتلال، كما أن قطاع غزة يعاني من حصار خانق وسيطرة عسكرية اسرائيلية وعدوان مستمر حتى بات أقرب إلى حمام دم منه إلى كيان بنيوي. يضاف إلى ذلك أن القدرة على توقيع الاتفاقيات الدولية لا تزال محدودة ومرتبطة بأطر سياسية مشروطة، لا بسيادة فعلية.

تاريخياً، شكّلت اتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي الإطار الأبرز لمحاولة تأسيس كيان فلسطيني يتمتع بحكم ذاتي كمرحلة تمهيدية نحو حل الدولتين. وقد أفضت تلك الاتفاقيات إلى إنشاء السلطة الفلسطينية، إلا أن تنفيذها بقي منقوصاً وجعل كيان الاحتلال منها مجرد تابع له. فالتوسع الاستيطاني المستمر، تحديداً ورفض كيان الاحتلال الانسحاب من مناطق واسعة، حال دون تحول الحكم الذاتي إلى سيادة كاملة. بل على العكس، شهدت السنوات التالية انزلاقاً تدريجياً نحو تكريس الوقائع الاحتلالية، بدل تفكيكها.

وقد بلغ هذا المسار ذروته عقب طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاه من اجتياح دموي لقطاع غزة، ودعوات إسرائيلية لإعادة الاستيطان فيه. كما شكّل تصويت الكنيست لصالح مشروع غير ملزم لضم مستوطنات الضفة الغربية إشارة إضافية إلى أن المنظومة الحاكمة في كيان الاحتلال لا تسير باتجاه تسوية، بل تسعى إلى تعميق السيطرة وتكريس الهيمنة الإقليمية.

في ظل هذا السياق، تبدو الاعترافات الغربية المتجددة بالدولة الفلسطينية، وعلى أهميتها السياسية والرمزية، غير كافية لإحداث تحول نوعي على الأرض. فالاعتراف بدولة لا يخلقها فعلياً، ما لم تُترجم هذه الخطوة إلى دعم حقيقي لتمكين الفلسطينيين من ممارسة سيادتهم وإنهاء الاحتلال. فحتى على المستوى الأممي، ما زالت عضوية فلسطين في الأمم المتحدة تقتصر على صفة "مراقب غير عضو"، إذ أن الحصول على العضوية الكاملة يتطلب موافقة مجلس الأمن، حيث تستخدم الولايات المتحدة بانتظام حق النقض (الفيتو) لمنع أي قرار لا ينسجم مع الموقف الإسرائيلي.

لقد خلّف انسداد أفق التسوية تآكلاً في الإيمان الدولي والإقليمي بإمكانية قيام دولة فلسطينية ضمن النموذج التقليدي لحل الدولتين. وبحسب استطلاع رأي أُجري أواخر عام 2022، أيد 37% من اليهود الإسرائيليين حلاً يقوم على دولة واحدة غير ديمقراطية يُقصى فيها الفلسطينيون من الحقوق المتساوية، فيما أعرب 30% من الفلسطينيين عن تفضيلهم لدولة واحدة تُحكم بيد فلسطينية. وفي كلا الطرفين، كانت النسبة الداعمة لدولة ديمقراطية واحدة تقوم على المساواة أقلية ضئيلة.

هذا التحول في الرأي العام يعكس انسداداً مزدوجاً: تراجع الثقة في المؤسسات الدولية، وانهيار الإجماع الداخلي حول شكل الدولة. ومع غياب الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى لفرض تسوية عادلة، تبقى الدولة الفلسطينية مشروعاً مؤجلاً، مُعترفاً به على الورق، مغيّباً في الواقع.

إن الأزمة لا تكمن في غياب الاعتراف بقدر ما تتمثل في غياب الشروط التي تضمن لهذا الاعتراف أن يتحول إلى كيان سياسي فعلي. وفي ظل استمرار الاحتلال، وتصاعد الاستيطان، فإن الاعترافات الدولية، مهما تعددت، تبقى أقرب إلى إعلان نوايا، منها إلى أدوات تغيير جوهري في ميزان القوى، خاصة وأن غالبية تلك الدول التي تعترف صورياً بفلسطين كدولة، تدعم كيان الاحتلال على غير صعيد، وتؤمن له غطاء سياسي لمواصلة ابادته للشعب الفلسطيني.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور