الإثنين 18 آب , 2025 01:25

ترامب بين رهانات القوة وتقلبات السياسة الخارجية

دونالد ترامب

تعيش السياسة الدولية لحظة حساسة في ظل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث يواجه اختباراً في صياغة علاقات الولايات المتحدة مع القوى الكبرى واللاعبين الإقليميين. أسلوبه القائم على المساومة والصفقات يعيد رسم ملامح الدور الأميركي، لكنه في الوقت نفسه يثير جدلاً واسعاً حول مدى صلابته وقدرته على الصمود أمام تعقيدات المشهد العالمي.

اللقاء بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا يختزل هذه الإشكالية. فمنذ آخر اجتماع بينهما تغيّرت المعادلات جذرياً بفعل الحرب في أوكرانيا، وسط انسداد سياسي لم يفض إلى أي حل دائم. هنا، يجد ترامب نفسه أمام خيارين: إما التشدد في دعم أوكرانيا ضمن تحالفه الغربي، أو التوجه نحو تفاهم سريع مع موسكو يعيد العلاقات إلى مسارها الطبيعي، ولو على حساب كييف. ما جعل هذا اللقاء اختباراً حقيقياً لمدى التزامه بالمصالح الإستراتيجية مقابل نزعة عقد الصفقات السريعة.

نهج ترامب في السياسة الخارجية لا يقوم على نظريات متماسكة بقدر ما يستند إلى حسه التفاوضي. فهو يعتمد على إغلاق الأسواق الأميركية كورقة ضغط، أو استخدام الرسوم الجمركية كسلاح لإجبار الخصوم على تقديم تنازلات. هذا الأسلوب قد يمنحه نقاط قوة ظرفية، لكنه في الوقت نفسه يضر بالاقتصاد الأميركي ويزعزع ثقة الحلفاء الذين يرون في واشنطن شريكاً متقلباً. وكما أشارت مجلة إيكونوميست، فإن استبدال أي نظرية للعلاقات الدولية بـ"نزوات رئاسية" يجعل الجغرافيا السياسية أكثر خطورة وأقل قابلية للتنبؤ.

على مستوى الرهانات الكبرى، يقف ترامب أمام ملفات معقدة: الصين، روسيا، كيان الاحتلال، وإيران. أي تقدم في هذه الملفات سيشكل مكسباً تاريخياً وفق اعتقاده، سواء في إنهاء الحرب الأوكرانية، أو تحقيق انفراج في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أو إيجاد صيغة للتعاون مع الصين دون تهديد الأمن القومي الأميركي. لكن الوقائع تشير إلى أن هذه الملفات لا تزال عصية على الحسم، وأن سياسة ترامب المتأرجحة أضعفت فرص بناء مسار ثابت فيها.

في المقابل، جاءت رهاناته المتوسطة ـ مع دول مثل البرازيل، جنوب إفريقيا، والهند ـ بنتائج عكسية. فالتوتر مع نيودلهي بسبب الرسوم الجمركية، والخلافات مع قادة البرازيل وجنوب إفريقيا، دفعت هذه الدول إلى تقارب أكبر مع الصين وروسيا. ما يعني أن واشنطن، بدل أن تعزز مكانتها لدى قوى صاعدة، تركت فراغاً استراتيجياً استغلته بكين وموسكو.

أما الرهانات الصغيرة، فقد أسفرت أحياناً عن نتائج ملموسة، مثل الوساطة في اتفاق سلام هش بين أذربيجان وأرمينيا، أو التوسط لوقف إطلاق نار بين الكونغو ورواندا. لكن هذه الإنجازات، وإن كانت مهمة على المستوى الإقليمي، تبقى محدودة التأثير في ميزان السياسة العالمية، وأكثر هشاشة من أن تؤسس لرؤية استراتيجية متكاملة.

ملف كيان الاحتلال يبرز بوضوح تفضيلات ترامب في الشرق الأوسط. فقد منح بنيامين نتنياهو دعماً غير مشروط، سواء عبر الغطاء السياسي أو عبر السماح بضربات استهدفت مواقع مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني. صحيح أن هذه الخطوات عززت أمن الكيان على المدى القصير، لكنها لم تقترن بأي محاولة جادة لكبح الحرب المستمرة في غزة، بما تحمله من تداعيات إنسانية واستراتيجية. وبذلك، ظهر الانحياز الأميركي كعامل يغذي الصراع وآلة الحرب بدل أن يفتح نافذة للحلول.

في المقابل، أتقنت بعض الدول التعامل مع ترامب عبر دبلوماسية المجاملات. باكستان قدمت له مثلاً ترشيحاً لجائزة نوبل للسلام وصفقة عملات مشفرة. وهي خطوات يرى خصومه في الداخل أنها تكشف ميله لتقديم اعتبارات شخصية على حساب المصلحة الأميركية. هذه الصورة تعزز الانطباع بأن علاقاته الدولية تقوم على شخصنة القرار أكثر من خضوعه لمؤسسات الدولة.

النتيجة حتى الآن هي سياسة خارجية متقلبة، تنجح أحياناً في تحقيق إنجازات تكتيكية، لكنها تعجز عن صياغة رؤية شاملة تضمن استقرار النظام الدولي وتعزيز مكانة الولايات المتحدة. وإذا كان لقاء ترامب وبوتين سيشكل فرصة لعقد "صفقة كبرى" قد تنهي الحرب في أوكرانيا، فإن العقبات تبدو أعمق من أن تسمح بإنجاز سريع، خاصة في ظل شكوك الحلفاء ورفض موسكو تقديم تنازلات جوهرية.

يظل ترامب أسير أسلوبه التفاوضي الذي يعلي من شأن الصفقات الآنية على حساب الاستراتيجيات طويلة المدى. قد يمنحه ذلك حضوراً إعلامياً قوياً، لكنه يترك السياسة الأميركية عرضة للتقلب، ويجعل العالم أكثر قلقاً من غياب بوصلة واضحة لدولة كبرى، تجد في تسليح إسرائيل لارتكاب ابادة، اسهل من الضغط عليها لايقافها.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور