الجمعة 15 آب , 2025 03:40

سبسطية: نموذج لسرقة الأراضي الفلسطينية بمزاعم توراتية

الاحتلال يوسع من عمليات الاستيطان في الضفة الغربية

تقف بلدة سبسطية شمال نابلس كشاهدة على آلاف السنين من التاريخ، بدءاً من العصر البرونزي وحتى الحقبة الإسلامية، مروراً بالحضارات الرومانية والآشورية والفارسية. حجارتها وساحاتها الرومانية وضريح النبي يحيى ليست مجرد آثار، بل تمثل ذاكرة حية للفلسطينيين وهويتهم التاريخية. إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى اليوم إلى استغلال هذه الأهمية لتبرير الاستيلاء على الأراضي، مستخدماً الرواية التوراتية لتقديم الأرض كميراث حصري للشعب اليهودي، بينما الواقع يظهر أن هذه الأراضي جزء من حياة الفلسطينيين اليومية وموروثهم الثقافي.

ما يحدث في سبسطية مثال واضح على الطريقة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي لتوسيع سيطرته على الأراضي الفلسطينية تحت غطاء "أثري" أو "تراثي". الأراضي التي تُسلب ليست مجرد مساحات خالية، بل هي أراضٍ زراعية ومناطق سكنية وقطع أثرية، وكلها تمثل جزءاً من حياة الفلسطينيين وهويتهم. الاحتلال يقدّم رواية توراتية مزيفة تزعم أن أرض سبسطية كانت عاصمة "مملكة إسرائيل القديمة" ليبرر تحويل ثلث البلدة إلى منتزه أو موقع سياحي يهودي، بينما الواقع يشير إلى أن الهدف أعمق وأخطر: فرض سيادة الاحتلال على الأرض وفصلها عن أصحابها الشرعيين.

استراتيجية الضم الناعم

ما يثير الانتباه هو أسلوب "الضم الناعم"، الذي يقوم على خطوات متدرجة: بدءاً بالحفريات الأثرية، مروراً ببناء بنى تحتية داخل الموقع، وانتهاءً بعزل الأرض عن السكان الفلسطينيين وفتحها أمام المستوطنين فقط. هذه الطريقة لا تظهر كاستيلاء عسكري مباشر، لكنها تؤدي إلى نفس النتيجة، بل وأكثر: فهي تغيّر هوية المكان وتشرعن الاستيطان بطريقة يدعي الاحتلال أنها قانونية ودبلوماسية، مستخدماً حجج مزيفة.

الأدوات التي يعتمد عليها الاحتلال متنوعة: الدعم المالي لمشاريع ترميم أثري، الاستعانة بأبحاث أكاديمية لخلق سردية تاريخية موحدة، بالإضافة إلى أدوات سياسية وتشريعية مثل قوانين ضم المواقع الأثرية للسيطرة الإسرائيلية الكاملة عليها. كل هذا يأتي ضمن خطة ممنهجة لإخفاء الحق الفلسطيني وطمس أي أثر لحضارات فلسطينية قديمة، حتى لو كانت هناك دلائل علمية واضحة على أن الفلسطينيين هم الورثة الطبيعيون لهذه الأرض.

الأكثر خطورة هو توظيف الإعلام لتزييف الأحداث وتوجيه الرأي العام العالمي. فالأحداث التي تُصور على أنها "تخريب فلسطيني" للمواقع الأثرية غالباً ما تكون مفتعلة أو مبالغ فيها، كما حصل مع حريق المنطقة الأثرية، ليتم تقديم الفلسطينيين على أنهم متخلفون عن حماية تراثهم، بينما الواقع يظهر العكس تماماً: الفلسطينيون حافظوا على هذه المواقع لآلاف السنين رغم الاحتلال والضغط المستمر.

يمكن القول إن هذه السياسات ليست حوادث معزولة، بل نموذج يتكرر في أماكن أخرى مثل القدس، حيث يسعى الاحتلال لتكريس رواية توراتية على حساب الوجود الإسلامي والفلسطيني الطويل، مستخدماً نفس الأساليب: حفريات، تزوير التاريخ، وتوظيف الإعلام والسياسة لتقديم الرواية الإسرائيلية كحقيقة مطلقة.

الهدف الحقيقي لسرقة الأراضي

يريد الاحتلال ضم أراضي سبسطية وغيرها من الأراضي الفلسطينية لأسباب متعددة تتداخل فيها السياسة مع الأيديولوجيا. أولاً، السيطرة على المواقع الأثرية والقديمة تمنح "إسرائيل" ذريعة تاريخية لدعم روايتها التوراتية، ما يسهل تبرير الاستيطان أمام المجتمع الدولي. ثانياً، الاستيلاء على الأراضي الزراعية والسكنية يعزز موقع المستوطنين ويوفر مساحة لتوسيع المستوطنات وبناء بنى تحتية تخدم مشروع الضم الفعلي. ثالثاً، هذه السياسة تهدف لعزل الفلسطينيين عن مواقعهم التاريخية والموروث الثقافي، بما يضعف الارتباط الفلسطيني بالأرض كما يظن الاحتلال ويقلل فرص "المقاومة المحلية" وهذا الهدف الذي يريد الاحتلال تحقيقه ليضمن اعترافاً فلسطينياً بوجوده وبالتالي يميت فكرة المقاومة والانتفاضة وهذا ما لن يحصل بالتأكيد نتيجة التمسك بالأرض والاستعداد للدفاع عنها مهما بلغ الأمر كما يجري في غزة. باختصار، الهدف ليس حماية التراث كما يُروج، بل فرض سيادة الاحتلال على الأرض وإعادة تشكيل الجغرافيا والسيادة لصالح كيان الاحتلال، سواء على الصعيد الرمزي أو المادي.

في النهاية، ما يواجهه الفلسطينيون في سبسطية ليس مجرد تهديد للأرض، بل لمحاولة محو الهوية التاريخية والثقافية لشعب بأكمله. السرقة والتزييف المنهجي للتاريخ يرافقهما الاستيلاء على الأراضي وفرض الاستيطان، ما يجعل هذه القضية نموذجاً حياً لفهم أساليب الاحتلال في الاستحواذ على الأرض تحت ستار المقولات التوراتية المزيفة. وهذا يمثل نموذجاً لما يمكن أن يحدث في أي بقعة من الأراضي الفلسطينية إذا غابت الرقابة والضوابط الدولية. سياسات الاحتلال في الاستيلاء على الأرض وتزوير التاريخ لأجل استيطانها، تظهر كيف يمكن للكيان ممارسة هذا الواقع في مختلف أنحاء الضفة الغربية دون توقف، طالما لم يوجد رادع فعلي يحد من تجاوزاته.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور