لم تفلح معاهدة السلام بين مصر و"إسرائيل" من منع الابتزاز الإسرائيلي لمصر في مجال الطاقة، فأجبرت "إسرائيل" مصر، متذرعةً بـ"مخاوف أمنية"، شركة شيفرون، على وقف الإنتاج في حقل تمار فجأةً، مما تسبب في انخفاض حاد في الواردات إلى مصر. وبينما تُعزى هذه الانقطاعات رسميًا إلى أعمال الصيانة، يُفسرها المحللون المصريون، بأنها شكل من أشكال "الابتزاز السياسي".
وبحسب تقرير لمعهد responsible statecraft "لقد أثّر اعتماد مصر على الطاقة الإسرائيلية سلبًا على حسابات الأمن القومي والسياسة الخارجية لمصر، بالإضافة إلى أن الحرب الدائرة في غزة شكّلت تهديدًا وجوديًا للدولة المصرية، وسط مشروع لتهجير سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. حتى أصبحت مصر في مواجهة مزيج من الابتزاز الجيوسياسي والهشاشة الاقتصادية والتوترات الإقليمية المتصاعدة.
النص المترجم للمقال
مع اقتراب فصل الصيف الحار، تجد مصر نفسها مجددًا في خضمّ طقسٍ مُقلق: التدافع السنوي على الغاز الطبيعي. تُشير التقارير الأخيرة إلى صورة مُقلقة لما هو آتٍ، فقد انخفضت إمدادات الغاز الصناعي إلى قطاعات حيوية كالبتروكيماويات والأسمدة انخفاضًا حادًا، بعضها بنسبة تصل إلى 50%. ما السبب المُباشر؟ الصيانة الدورية في حقل ليفياثان الإسرائيلي العملاق، مما أدى إلى انخفاض كبير في الواردات. لكن هذا ليس سوى أحدث أعراض داءٍ أعمق. لقد وقعت مصر، التي كانت تُشاد بها كمركزٍ صاعدٍ للطاقة، في فخٍّ مُحفوفٍ بالخطر من التبعية، حيث أصبحت خيارات أمنها القومي وسياساتها الخارجية مُقيدةً بشكل متزايد بسبب اعتمادها المُحرج على الغاز الإسرائيلي.
لسنوات، طمأنت الحكومة المصرية شعبها والعالم بثروة طاقة وشيكة . وقُدِّم اكتشاف حقل ظهر للغاز العملاق عام 2015، والذي أُشيد به باعتباره الأكبر في البحر الأبيض المتوسط، على أنه فجر عهد جديد. وبحلول عام 2018، عندما بدأ إنتاج حقل ظهر، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن مصر "حققت هدفًا"، واعدًا بالاكتفاء الذاتي، بل وحتى بالتحول إلى مُصدِّر إقليمي للغاز. وكانت الرؤية أن مصر، التي كانت مستوردة في السابق، ستستغل موقعها الاستراتيجي ومحطات التسييل لتصبح قناة حيوية لتدفق غاز شرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا .
وقد تم ضخ المليارات في محطات طاقة جديدة، مما عزز اعتماد البلاد على الغاز لتوليد الكهرباء، والذي يُمثل اليوم نسبة مذهلة تبلغ 60٪ من إجمالي استهلاكها.
ومع ذلك، بدأ حلم وفرة الغاز المحلي، كما هو الحال مع العديد من المشاريع الطموحة في المنطقة، يتلاشى. فبعد ثلاث سنوات فقط من ذروته، انخفض إنتاج حقل ظهر بشكل مثير للقلق. ويشير الخبراء الآن إلى أن احتياطيات حقل ظهر القابلة للاستخراج قد تكون أقل بكثير من التقديرات الأولية. علاوة على ذلك، وكما يشير خبير الطاقة المصري خالد فؤاد، فإن "نفاد صبر" القيادة السياسية لتسريع الإنتاج لتحقيق عوائد اقتصادية سريعة - وخاصةً للاستفادة من الطلب الأوروبي في ظل الحرب الروسية الأوكرانية - أدى إلى مشاكل فنية وأضرار في الآبار.
يُفاقم سوء الإدارة الداخلية هذا النقص المزمن في النقد الأجنبي في مصر، بالإضافة إلى متأخرات بمليارات الدولارات مستحقة على مصر لشركات النفط والغاز العالمية.
وقد أدت هذه المشاكل المالية بدورها إلى تقليص الاستثمارات الحيوية في عمليات الاستكشاف الجديدة وصيانة الحقول القائمة، مما أدى فعليًا إلى خنق الإنتاج المحلي. ونتيجةً لذلك، بحلول عام 2023، عادت مصر بشكل كبير إلى كونها مستوردًا صافيًا للغاز الطبيعي، وهو تحول حاد تجاوز 10 مليارات دولار عن فائضها القصير الذي حققته قبل عام واحد فقط. وفي عام 2024، شكّل الغاز الإسرائيلي 72% من إجمالي واردات مصر من الغاز. وقد حوّل هذا الاعتماد المتزايد، ربما حتمًا، المعاملات التجارية إلى أداة ضغط هائلة.
انكشفت هشاشة هذا الترتيب بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في أكتوبر/تشرين الأول 2023. إذ أجبرت إسرائيل، متذرعةً بـ"مخاوف أمنية"، شركة شيفرون، مُشغّلة الحقل، على وقف الإنتاج في حقل تمار فجأةً، مما تسبب في انخفاض حاد في الواردات إلى مصر. وكان هذا أول انقطاع من سلسلة انقطاعات، تلاه انخفاض كبير آخر في مايو/أيار من هذا العام. وبينما تُعزى هذه الانقطاعات رسميًا إلى أعمال الصيانة، يُفسرها المحللون المصريون على نطاق واسع ، متزامنةً مع تصاعد التوترات السياسية بسبب حرب غزة، على أنها شكل من أشكال "الابتزاز" السياسي.
لقد أثّر هذا الاعتماد على الطاقة سلبًا على حسابات الأمن القومي والسياسة الخارجية لمصر، لا سيما فيما يتعلق بصراع غزة. بالنسبة للقاهرة، تُشكّل الحرب الدائرة في جوارها تهديدًا وجوديًا، نظرًا للدعوات المستمرة من شخصيات مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعناصر اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، لتهجير سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية.
هذا الاحتمال، الذي يُمثّل " خطًا أحمر "لمصر، يُقاوم بشدة من القاهرة، التي ترى في دفع إسرائيل النشط لسكان غزة نحو الحدود المصرية محاولةً مُدبّرةً للقضاء على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقبلية. بالإضافة إلى التداعيات السياسية على القاهرة في حال تحققها، فإن مثل هذه الخطوة ستُشرّد ما يزيد عن مليون غزّي، بمن فيهم مقاتلو حماس، إلى الأراضي المصرية، مما سيُحوّل سيناء بدوره إلى منطقة صراع مُتقلّبة.
لم تستقر المنطقة إلا مؤخرًا بعد حملة مُكلفة استمرت لأكثر من عقد ضدّ المُتطرّفين، وهي حملة قدّمت فيها حماس، لفترة من الوقت، مساعداتٍ سرّية لبعض هذه الجماعات. قد يتجاوز احتمال تجدد عدم الاستقرار ذروته السابقة بكثير. بالإضافة إلى تفاقم التحديات الأمنية، فإن النزوح الجماعي سيؤدي أيضًا إلى زيادة كبيرة في الطلب المحلي على الطاقة في مصر، والذي يعاني بالفعل من ضغوط بسبب التدفق المفاجئ لأكثر من 1.2 مليون لاجئ سوداني إلى مصر منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، وفقًا لتقديرات الحكومة المصرية. علاوة على ذلك، فإن ضعف مصر الاقتصادي والطاقة يحد من مجال المناورة لديها. إن غياب سفير مصري جديد في تل أبيب، وهو بادرة رمزية للاحتجاج على الهجوم الإسرائيلي على غزة، يخفي الحقيقة الأعمق وغير المريحة المتمثلة في أن قدرة القاهرة على ممارسة نفوذ ذي مغزى في المأساة المستمرة تعوقها بشدة اعتمادها على الطاقة الإسرائيلية. في مواجهة هذه الضغوط الهائلة، لا يمكن لمصر أن تتحمل إثارة مواجهة مباشرة يمكن أن تعرض أمنها القومي أو إمدادات الطاقة أو المساعدات الخارجية الحيوية للخطر، والتي كانت الولايات المتحدة تصرفها تاريخيًا دعمًا مباشرًا لمعاهدة السلام لعام 1979 مع إسرائيل. وبدلاً من ذلك، تعتمد القاهرة على مزيج من المواقف العسكرية والمبادرات الدبلوماسية والتحالفات الإقليمية للرد على الإجراءات الإسرائيلية ــ مع الحرص على عدم تجاوز الخط الذي من شأنه أن يؤدي إلى انتقام شديد أو زعزعة الاستقرار على نطاق أوسع.
المصدر: معهد responsible statecraft
الكاتب: Elfadil Ibrahim