في أعقاب العدوان الأميركي الذي استهدفت منشآت نووية إيرانية، ، بدا أن البيت الداخلي للحزب الجمهوري يشهد انقساماً جاداً حول الضربة. وبينما توقع كثيرون أن تُوحّد "لحظة الحرب" الحزب خلف إدارة الرئيس دونالد ترامب -او على الأقل كما يتمنى الأخير-، جاء موقف النائب الجمهوري توماس ماسي ليؤكد وجود انقسام حاد في الرؤية السياسية، ليس فقط حول إيران، بل حول مفهوم الدور الأميركي في العالم، والعلاقة مع كيان الاحتلال، وحدود النفوذ الخارجي.
جاء تصريح ترامب عبر منصة اكس، ليضفي مزيداً من التوتر. والذي هاجم فيه ماسي بأقسى العبارات، زميله في الحزب بـ"الخاسر البائس"، "الضعيف"، و"البسيط التفكير"، ونعته بأنه "يصوّت بلا دائماً"، و"يجهل كيفية وضع أميركا أولاً". هذا التوتر بين الرجلين ليس وليد الساعة، لكنه بلغ ذروته عقب الهجوم الأميركي الذي تبنّته واشنطن رسمياً.
ينتمي دونالد ترامب إلى تيار "MAGA" (اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً)، الذي يتميّز بخطابه القومي الشعبوي، وعدائه الصريح لإيران، وتحالفه العميق مع اليمين الإسرائيلي، لا سيما حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. يؤمن هذا التيار بأن القوة العسكرية جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية الأميركية، ويرى في الضربات الاستباقية وسيلة مشروعة لردع التهديدات، بما فيها تلك الآتية من طهران، حسب توصيفه.
في المقابل، يُمثّل توماس ماسي (عن ولاية كنتاكي) جناحاً مختلفاً داخل الحزب: التيار الليبرتاري المحافظ. هذا التيار يدعو إلى الانعزالية العسكرية، ويعارض أي تدخل خارجي لا يصبّ مباشرة في مصلحة المواطن الأميركي، كما يعارض تقديم مساعدات عسكرية أو مالية لأي طرف، بما فيها إسرائيل.
يرى ترامب وتياره في إيران تهديداً وجودياً لأمن الكيان والولايات المتحدة، ويؤمن بأن الردع العسكري هو الخيار الأفضل. وقد وصف الضربة الأميركية بأنها "انتصار كامل"، فيما اعتبر أن من يعارضها -كتوماس ماسي -"لا يحترم الجيش الأميركي ولا شجاعته".
أما ماسي، فقد أعرب بوضوح، عبر ظهوره الإعلامي الأخير، عن رفضه لتوريط واشنطن في حرب جديدة في الشرق الأوسط، قائلاً إن واشنطن "ليست شرطي العالم"، وإن تدخلها العسكري بناء على مصالح حلفاء خارجيين، يعرّض الجنود والمواطنين الأميركيين للخطر، دون مكاسب استراتيجية واضحة. في هذا السياق، تُعد معارضته للضربة على إيران امتداداً لمواقفه السابقة ضد دعم أوكرانيا بالسلاح، وضد تمويل الجيش الإسرائيلي.
هذا التباين يبدو أنه ليس تكتيكياً بل استراتيجي. ففي حين يبني ترامب سرديته على "الهيبة الأميركية" و"التفوق العسكري"، ينطلق ماسي من منطق اقتصادي ودستوري يرى أن تدخل الدولة يجب أن يُقيَّد، وأن الإنفاق على الحروب الخارجية هو عبء على دافع الضرائب الأميركي، وليس استثماراً في الأمن القومي.
لعل الأهم في هذا الانقسام أنه لم يعُد يقتصر على أدوات السياسة، بل طال الثوابت القديمة، وعلى رأسها العلاقة الخاصة مع إسرائيل. بينما لا يزال ترامب وتياره يقدمون دعماً مطلقاً لحكومة نتنياهو، يزداد داخل الحزب صوت معارض لهذا التوجه، يرى أن المصالح الأميركية لا تُحدَّد من تل أبيب، وأن الانحياز غير المشروط لإسرائيل في نزاعاتها الإقليمية قد يكلّف واشنطن الكثير، كما حدث الآن حين دخلت المصالح الأميركية دائرة الردّ الإيراني.
في ظهوره الأخير ضمن أحد البرامج السياسية البارزة، شكك ماسي في مشروعية الضربة على إيران، وطرح تساؤلات حول النفوذ المتزايد للوبيات الضغط - وتحديداً AIPAC -على السياسة الخارجية الأميركية.
هذا الانقسام داخل الحزب الجمهوري يعكس لحظة انتقال سياسي أوسع في واشنطن. ففي حين تستند إدارة ترامب إلى دعم قاعدتها الشعبوية التي تميل إلى الحسم العسكري والشعارات القومية، يبدو أن جزءاً من النخبة المحافظة بدأت تُعيد تقييم ثوابت السياسة الخارجية الأميركية، خاصة بعد عقود من الحروب الطويلة والمكلفة.
قد لا ينجح تيار ماسي في قلب المعادلة اليوم، لكنه بات يمتلك الشرعية والجرأة للوقوف في وجه القرارات الكبرى، حتى في لحظات يُفترض فيها أن يسود الإجماع. وهذا وحده مؤشر على أن ما بعد الضربة على إيران ليس كما قبلها، لا في الشرق الأوسط، ولا في الحزب الجمهوري.